تزامنت التفجيرات الإرهابية في دمشق وحلب، مع بروز ملامح اقتناع غربي بفشل الرهانات على التدخل العسكري في سورية، أو إسقاط النظام بالقوة، وبدء مسيرة – ولو أنها تبدو طويلة – لملامح حل سياسي يلوح في الأفق البعيد مع وصول فريق كوفي أنان إلى البلاد.
والحقيقة أن ما تمّ نفيه سابقاً حول وجود القاعدة في سورية، تم تأكيده على لسان أكثر من مسؤول غربي وأميركي، بالإضافة إلى حديث عراقي عن هجرة واسعة يشهدها التنظيم من العراق باتجاه سورية، بعد أن أوعز أيمن الظواهري لأنصاره بنصرة إخوانهم في سورية.
إذاً بتأكيد الجميع، دخلت القاعدة على خط الصراع ضد نظام الأسد في سورية، والحقيقة أن ما يتمّ التستر عنه ومحاولة إخفائه عند البعض، خصوصاً في لبنان من حلفاء تيار المستقبل المسيحيين، هو أن القاعدة أو سواها من التيارات التكفيرية التي تنتشر بسرعة وقوة غير مسبوقتين، ما هي إلا غطاء للفكر الوهابي السعودي الذي يعيش “عصره الذهبي” في المنطقة في الوقت الراهن.
وفي الحقيقة، تشهد سورية في المرحلة الراهنة تقاطع مصالح بين تيار “الإسلاميين الجدد” والتيار الوهابي، في الرغبة في التخلص من النظام السوري كمرحلة أولى لفرض سيطرة على المنطقة، التي قد تشهد – في ما لو تحققت وتمّ التخلص من الأقليات ومن كل فكر مناوئ – معارك إلغائية بين الاثنين، لن تبقي للمنطقة أي إمكانية للخروج من الجهل والتعصب والتكفير، وهو ما تدفع إليه أميركا وتطمح له “إسرائيل” بالطبع.
وبالرغم من تقاطع مصالح “الإسلاميين الجدد” مع الوهابيين في المرحلة القصيرة، نجد تبايناً بينهما يصل إلى حد العداء، واختلافاً في السياسات والمنطلقات والدعم الذي يتلقيانه، وذلك كما يلي:
- “التيار الوهابي” بالقيادة السعودية وخطورته تكمن في نزعته الإلغائية التكفيرية التي لا تقبل شريكاً، وهو يحاول السيطرة التدريجية على مصر، التي تتجه بشكل سريع إلى تقليد النموذج السعودي، وما يحصل في مجلس الشعب المصري من حركات عنصرية يزيد الحقد الطائفي والكره بين أبناء الوطن، وتماشياً مع فكر هذا التيار المناقض لقيم الإسلام الحقيقي، يكثر الحديث عن محاولات حرق كنائس وتدميرها، بعد الفتوى التي أصدرها شيخ سعودي بضرورة تحقيق الوعد القائل بأن الشرق الأوسط وشبه الجزيرة العربية يجب ألا يوجد فيهما أي كنيسة.
اليوم، تبدو محاولة السيطرة على الساحة السورية أساسية لهذا التيار، لذا جاهرت السعودية برغبتها تسليح المعارضة السورية، وذلك لأن قيام حكمي وهابي تابع لها في سورية، يمكّنها من العودة إلى لبنان والسيطرة عليه بقوة إلغائية أيضاً، كما يساعدها في زيادة نفوذها في العراق، وتهديد السلطة الحاكمة، وذلك بعدما استطاع وكلاؤها – وبدعم وغطاء أميركييْن – ترويع المسيحيين في العراق وتهجيرهم منه.
- أما تيار “الإسلاميين الجدد”، والذي تتزعمه تركيا، وتحاول أن تصورّه بأنه “إسلام مودرن أو معصرن”، فيشهد تراجعاً في سياساته الهجومية في سورية، بسبب الخسائر الميدانية التي مُني بها، وبسبب التقهقر الذي شهدته الدبلوماسية التركية بعدما بالغ أردوغان في استعراض القوة، والقيام بتهديد الرئيس الأسد منذ بداية الأحداث في سورية، ورفع سقف التوقعات التي سرعان ما تكسرت على صخرة قوة النظام السوري الداخلية، وثبات تحالفاته الأقليمية، وحجم وأهمية الأوارق التي يحملها، والتي مكّنته من فرض سياسة ردع مقابلة، وتهديد تركيا والغرب في المنطقة برمتها.
ويختلف تيار “الإسلاميين الجدد” عن التيار الأول بأمور عديدة لعل أبرزها:
1- البراغماتية لدى “الإسلاميين الجدد” مقابل الدوغما التكفيرية للتيار السابق، فهو يركب “الحافلة الديمقراطية” فقط للوصول إلى السلطة، ولا يتوانى عن استخدام “وجهين ولسانين” لحشد التأييد الغربي له، وهو ما فعله في مصر وتونس على سبيل المثال، وذلك تمهيداً لتثبيت نفسه في السلطة، على أن يقوم بالقضاء على كل المناوئين له فيما بعد، ومنهم التيار الوهابي، بالرغم مما يبدو من عدم قدرته على التخلص كلياً من الموجات التكفيرية التي تحاول اختراقه من الداخل بدعم من التيار الوهابي.
2- يمتلك تيار “الإسلاميين الجدد” قاعدة شعبية في سورية، بينما نرى أن التيار الوهابي يستند إلى قاعدته اللبنانية للتغلغل في سورية، والمرور عبرها لتقويض الاستقرار فيها، بسبب فقدانه قاعدة شعبية سورية يستند إليها في قتاله ضد النظام، وهذا المعيار يؤدي بطبيعة الحال إلى اختلاف الاستراتيجيات، فالتيار الوهابي غير معني بأي حل سياسي، لا الآن ولا في المستقبل، وسيبقى يقاتل ويدعم موجات القتل عبر الفتاوى والمال والسلاح، ويستمر في تقويض الاستقرار الأمني في سورية، إلى أن تُصاب خلاياه بهزيمة عسكرية قاصمة، لا يجد من بعدها من يحمل بندقية أو مستعد للتفجير من أجله، وهو ما يجعلنا نفهم التصريحات السعودية الهجومية، وإعلانها تسليح المعارضة السورية، في ظل الحديث الدولي عن ضرورة التوجه إلى الحل السياسي.
في المقابل، وبعد اقتناع تيار الإسلاميين الجدد “البراغماتي” أنه لن يستطيع تسلُّم السلطة وإزالة نظام الأسد، مهما تعددت مصادر الدعم الإقليمي والدولي له، فهو أقرب – فكرياً على الأقل – بقبول فكرة الحل السياسي، إذا أُمّن له موقع جيد في السلطة، والذي يمكن أن “يقنعه” بها أو يفرضها عليه رعاته الدوليون والإقليميون، لكن المشكلة تكمن في أن ما كان يمكن أن يقبله الرئيس الأسد من قبل – خلال بعض فترات الضعف التي شهدها نظامه في مراحل “الثورة” الأولى – لن يقبله الآن؛ بعدما حقق كل هذه الانتصارات، وبعدما استطاع بصموده إفشال جميع المؤامرات ضده.
في المحصلة، يخوض الشعب السوري اليوم معركة وجودية دفاعية، ليس عن نفسه فحسب، بل بالنيابة عن شعوب المنطقة، وطوائفها المتعددة، فالتيارات التكفيرية التي لا ترضى شريكاً، لن تتوقف عند محاولة إلغاء الأقليات المختلفة دينياً أو مذهبياً عنها، لكنها سترتد إلى ساحتها المذهبية الخاصة، لتلغي كل فكر منفتح بداية، بعدها تنصرف لتطهير ساحتها، فتأكل أبناءها وأدواتها، وأول من ستطاله هو تيار المستقبل بالتحديد.